كانت الهجرة النبوية من مكة إلى الهجرةحدثا محوريا في تاريخ الدعوة الإسلامية، وستبقى كذلك لما تحمله من دلالاتفي حياة المسلمين أفرادا وجماعة.
لقد فتحت الهجرة -أستغفر الله تعالى- بلفتح الحق سبحانه بها آفاقا واسعة ومستقبلا رحبا لدعوته لما انسدت السبلوالطرق برفض قريش الاستجابة والانخراط في مشروع الإسلام، وفي هذا تنبيهللمسلمين اليوم الذين يتقاعسون ويترددون في نصرة دينه فيأتي سبحانه بمنيحبب لهم الإيمان وينصر بهم دعوته: "يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عندينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المومنين أعزة علىالكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيهمن يشاء، والله واسع عليم" (المائدة: 56).
لقد جاءت الهجرة النبوية ملأى بالعبروالدروس للعاملين في حقل الدعوة سواء في مجال التخطيط والأخذ بالأسبابوالمناورة، أو على مستوى توزيع المهام وإشراك كل من يفيد في إنجاحالمشروع، أو سواء على مستوى توظيف الإمكانيات المتاحة، أو على مستوىالاستعانة بذوي المروءات والكفاءات، ومع هذا وقبله وأثناءه اليقين في نصرالله تعالى لدعوته وحسن الظن به في أحرج الظروف وأخطرها... هذه وغيرهاالفوائد والعبر التي تحملها الهجرة والتي يمكن أن تفيد المسلمين اليومأفرادا وجماعة، سلوكا إلى الله تعالى ونشرا لدعوة الإسلام وتدافعا مع قوىالباطل التي لا تقل مكرا عما كان عليه العدوان القرشي ظاهرا ووراءه التآمراليهودي باطنا.
دلالات الهجرة:
ولكن ما هي دلالات الهجرة في حياة كل مسلم؟ وكيف تكون الهجرة بهذه الدلالات باعثا على العمل اجتهادا في طاعة الله تعالى؟
الهجرة باقية مستمرة لا تنقطع حتى قيامالساعة، كما حديث مسلم وأبي داود يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطعالهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".الهجرة قلب لدولة عادات النفس؛ الهجرة إذن سلوك مستمر متجدد في حياةالمسلم، وفرار إلى الله تعالى بالمسارعة والتسابق إلى الخير وكل عمل صالحيجلب مرضاته سبحانه؛ الهجرة هروب مما يغضبه وينزل مقته، "والمهاجر من هجرما نهى الله عنه" كما في حديث البخاري.
المهاجر من وفق -بتوفيق منه سبحانه- لهجرعاداته وترك مألوفاته مأكلا ومشربا وملبسا وقولا وسلوكا بنية التقرب إليهعز سلطانه، وطوع نفسه لتحب محاب الله ورسوله، حتى يكون هواه تبعا لما جاءبه رسول الله r كما في الحديث، وخرج من سلطان شهواته:
1. المهاجر من هجر لذة النوم وتجافى جنبه عن وثيرالفراش ودفئه لما سمع -أو قبل أن يسمع بسويعة- نداء الفلاح: "الصلاة خير من النوم".
2. المهاجر من هجر الإسراف في الأكلوالشرب ليبقى نشيط القلب قبل البدن على الطاعة وعمل الخيرلما بلغه الزجرالنبوي: "حسبك لقيمات يقمن صلبك".
3. المهاجر من هجر الغفلة والغافلينوانتظم في سلك الراجين وجهه سبحانه لما وقع في سمع قلبه نداء رب العالمينيأمره أن يصبر نفسه مع الذاكرين الله بالغدو والعشي، وينهاه عن صحبةالمنفرط أمرهم المشتت شملهم في سورة الكهف: "واصبر نفسك مع الذين يدعونربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياةالدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا وكان أمره فرطا" (28).
4. المهاجر من هجر النفاق وأهله، لمادعاه ربه ليكون مع الصادقين ويحبهم ويعمل عملهم استجابة لأمره تعالى فيسورة التوبة: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" (120).
5. المهاجر من هجر سيء الأخلاق وفظاظةالطبع وغلظة القلب في التعامل مع الزوج والأولاد والجيران والناس أجمعينلما علم أن المؤمن ينال بحسن الخلق عظيم درجات الآخرة كما أخبر بذلكالصادق الأمين: "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازلوإنه لضعيف العبادة" (الطبراني).
6. المهاجر من هجر الدنيا وإغراءها وتحررمن تأثيرها، وابتغى بها وجه الله تعالى لما قرأ التقريع القرآني في سورةلقمان يذم الدنيا وغوايتها، ويحذر من فتنتها: "فلا تغرنكم الحياة الدنيا،ولا يغرنكم بالله الغرور".(32)
7. المهاجر من هجر عادة الكسل وأرقه واقعجهل المسلمين لدينهم وقرآنهم فعقد العزم على حفظ كلام ربه وتعليمه لغيره،لما سمع ثناء النبي صلى الله عليه وسلم:"خيركم من تعلم القرآنوعلمه".(رواه الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم).
8. المهاجر من هجر البطالة وشمر علىساعده يعمل ويعلم الناس أسباب الكسب الحلال صونا لماء وجه المؤمن وعزةالأمة لما بلغه حب الله تعالى للعامل كما في الحديث عن ابن عمر رضي اللهعنهما أن النبي r قال: "إن الله يحب العبد المحترف". (رواه الطبرانيوالبيهقي).
9. المهاجر من تهمم بحال المسلمين وواقعالقصعة تتداعى عليهم الأمم للنيل من كبريائهم قبل ثرواتهم المادية فسارفيهم بالحسنى والكلمة الطيبة تأليفا للقلوب وجمعا لما انفرط من عقد الأمة،وانبرى يرفع يده في جوف الليل وفي كل سجود يرفع شكوى المسلمين إلى الباريجل وعلا ليكشف الغمة ويقرب الشقة وينصر دينه وعباده، حتى لا يرد عليهانتسابه للمسلمين لأنه لم يهتم بأمرهم، وفي الحديث: "من أصبح لا يهتم بأمرالمسلمين فليس منهم".
10. المهاجرمن أخلص القصد واكتسب الخبرةوالمهارة التي تؤهل المسلمين لمستقبل التمكين في الأرض أخذا بالأسباب التيأمروا بها في سورة الأنفال: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيلترهبون به عدو الله وعدوكم."(61)
هذه بعض منارات حقيقة هجرتنا لله ولرسولهفي زماننا، بها نسلك طريق السابقين عسى أن ننتظم في سربهم ونكون ممناتبعهم بإحسان، يقول تبارك وتعالى في سورة التوبة: "والسابقون الأولون منالمهاجرين والأنصاروالذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعدلهم جنات تجري تحتها الأنهارخالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم"(101)،بشرط واحد هو تصحيح النية وإخلاص القصد كما في الحديث المفتاح: "إنماالأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى.." فلنحرص على أن تكون الهجرة إلىالله تعالى لا لدنيا نصيبها وكل ما دونه سبحانه فهو دنيا