حقيقة . . من أروع المقالات التي قرأت . .
أستقطع جزء من وقتك الثمين فالمقال يدعو الى التدبر
مغزى الحياة
د. راغب السرجاني
تدبرتكثيرًا في مسألة قيام الأمم، فلاحظت أمرًا عجيبًا، وهو أن فترة الإعدادتكون طويلة جدًّا قد تبلغ عشرات السنين، بينما تقصر فترة التمكين حتى لاتكاد أحيانًا تتجاوز عدة سنوات!! فعلى سبيل المثال بذل المسلمون جهدًاخارقًا لمدة تجاوزت ثمانين سنة؛ وذلك لإعداد جيش يواجه الصليبيين فيفلسطين، وكان في الإعداد علماء ربانيون، وقادة بارزون، لعل من أشهرهم عمادالدين زنكي ونور الدين محمودوصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله جميعًا، وانتصر المسلمون في حطين، بلحرروا القدس وعددًا كبيرًا من المدن المحتلة، وبلغ المسلمون درجة التمكينفي دولة كبيرة موحدة، ولكن -ويا للعجب- لم يستمر هذا التمكين إلا ستسنوات، ثم انفرط العقد بوفاة صلاح الدين، وتفتتت الدولة الكبيرة بينأبنائه وإخوانه، بل كان منهم من سلم القدس بلا ثمن تقريبًا إلى الصليبيين!!
كنتأتعجب لذلك حتى أدركت السُّنَّة، وفهمت المغزى.. إن المغزى الحقيقيلوجودنا في الحياة ليس التمكين في الأرض وقيادة العالم، وإن كان هذا أحدالمطالب التي يجب على المسلم أن يسعى لتحقيقها، ولكن المغزى الحقيقيلوجودنا هو عبادة الله
.. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]..
وحيثإننا نكون أقرب إلى العبادة الصحيحة لله في زمن المشاكل والصعوبات، وفيزمن الفتن والشدائد، أكثر بكثير من زمن النصر والتمكين، فإن الله -منرحمته بنا- يطيل علينا زمن الابتلاء والأزمات؛ حتى نظل قريبين منه فننجو،ولكن عندما نُمكَّن في الأرض ننسى العبادة، ونظن في أنفسنا القدرة على فعلالأشياء، ونفتن بالدنيا، ونحو ذلك من أمراض التمكين.. قال تعالى: {هُوَالَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْفِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍوَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْكُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَمُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّمِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِيالأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْعَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَامَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 22،23].
ولايخفى على العقلاء أن المقصود بالعبادة هنا ليس الصلاة والصوم فقط، إنما هوفي الحقيقة منهج حياة.. إن العبادة المقصودة هنا هي صدق التوجه إلى الله،وإخلاص النية له، وحسن التوكل عليه، وشدة الفقر إليه، وحب العمل له، وخوفالبعد عنه، وقوة الرجاء فيه، ودوام الخوف منه.. إن العبادة المقصودة هي أنتكون حيث أمرك الله أن تكون، وأن تعيش كيفما أراد الله لك أن تعيش، وأنتحب في الله، وأن تبغض في الله، وأن تصل لله، وأن تقطع لله.. إنها حالةإيمانية راقية تتهاوى فيها قيمة الدنيا حتى تصير أقل منقطرة في يمٍّ، وأحقر من جناح بعوضة، وأهون من جدي أَسَكَّ ميت..
كم من البشر يصل إلى هذه الحالة الباهرة في زمان التمكين!!
إنهم قليلون قليلون!
ألم يخوفنا حبيبي عليه أفضل الصلاة والسلام من بسطة المال، ومن كثرة العرض، ومن انفتاح الدنيا؟!
ألميقل لنا وهو يحذرنا: "فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْوَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَابُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَاتَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"؟!
ألانجلس معًا، ونأكل معًا، ونفكر معًا، ونلعب معًا، فإذا وصل أحدنا إلى كرسيسلطان، أو سدة حكم، نسي الضعفاء الذين كان يعرفهم، واحتجب عن "العامة"الذين كانوا أحبابه وإخوانه؟! ألم يحذرنا حبيبي عليه أفضل الصلاة والسلاممن هذا الأمر الشائع فقال: "مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًامِنْأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْوَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِوَفَقْرِهِ"؟!
هل يحتجب الفقير أو الضعيف أو المشرد في الأرض؟
لا.. إنما يحتجب الممكَّن في الأرض، ويحتجب الغني، ويحتجب السلطان.
إنوصول هؤلاء إلى ما يريدون حجب أغلبهم عن الناس، ومَن كانت هذه حاله فإنالله يحتجب عنه، ويوم القيامة سيدرك أنه لو مات قبل التمكين لكان أسلم لهوأسعد، ولكن ليس هناك عودة إلى الدنيا، فقد مضى زمن العمل، وحان أوانالحساب.
إن المريض قريب من الله غالب وقته، والصحيح متبطر يبارز الله المعاصي بصحته..
والذي فقد ولده أو حبيبه يناجي الله كثيرًا، ويلجأ إليه طويلاً، أما الذي تمتع بوجودهما ما شعر بنعمة الله فيهما..
والذيوقع في أزمة، والذي غُيِّب في سجن، والذي طُرد من بيته، والذي ظُلم منجبار، والذي عاش في زمان الاستضعاف، كل هؤلاء قريبون من الله.. فإذا وصلواإلى مرادهم، ورُفع الظلم من على كواهلهم نسوا الله، إلا من رحم الله،وقليل ما هم..
هل معنى هذا أن نسعى إلى الضعف والفقر والمرض والموت؟
أبدًا،إن هذا ليس هو المراد.. إنما أُمرنا بإعداد القوة، وطلب الغنى، والتداويمن المرض، والحفاظ على الحياة.. ولكن المراد هو أن نفهم مغزى الحياة.. إنهالعبادة ثم العبادة ثم العبادة.
ومنهنا فإنه لا معنى للقنوط أو اليأس في زمان الاستضعاف، ولا معنى لفقد الأملعند غياب التمكين، ولا معنى للحزن أو الكآبة عند الفقر أو المرض أوالألم.. إننا في هذه الظروف -مع أن الله طلب منا أن نسعى إلى رفعها- نكونأقدر على العبادة، وأطوع لله، وأرجى له، وإننا في عكسها نكون أضعف فيالعبادة، وأبعد من الله.. إننا لا نسعى إليها، ولكننا "نرضى" بها.. إننالا نطلبها، لكننا "نصبر" عليها.
إنالوقت الذي يمضي علينا حتى نحقق التمكين ليس وقتًا ضائعًا، بل على العكس،إنه الوقت الذي نفهم فيه مغزى الحياة، والزمن الذي "نعبد" الله فيه حقًّا،فإذا ما وصلنا إلى ما نريد ضاع منا هذا المغزى، وصرنا نعبد الله بالطريقةالتي "نريد"، لا بالطريقة التي "يريد"!.. أو إن شئت فقُلْ نعبد اللهبأهوائنا، أو إن أردت الدقة أكثر فقل نعبد أهواءنا!! قال تعالى:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِوَكِيلاً} [الفرقان: 43].
ولذلككله فإن الله الحكيم الذي يريد منا تحقيق غاية الخَلْق، الرحيم الذي يريدلنا الفلاح والنجاح قد اختار لنا أن تطول فترة الإعداد والبلاء والشدة،وأن تقصر فترة التمكين والقوة، وليس لنا إلا أن نرضى، بل نسعد باختياره،فما فعل ذلك إلا لحبه لنا، وما أقرَّ هذه السُّنَّة إلا لرحمته بنا.
وتدبروا معي إخواني وأخواتي في حركة التاريخ..
كم سنة عاش نوح -عليه السلام- يدعو إلى الله ويتعب ويصبر، وكم سنة عاش بعد الطوفان والتمكين؟!
أينقصة هود أو صالح أو شعيب أو لوط -عليهم السلام- بعد التمكين؟! إننا لانعرف من قصتهم إلا تكذيب الأقوام، ومعاناة المؤمنين، ثم نصر سريع خاطف،ونهاية تبدو مفاجئة لنا.
لماذا عاش رسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام إحدى وعشرين سنة يُعِدُّ للفتح والتمكين، ثم لم يعش في تمكينه إلا عامين أو أكثر قليلاً؟!
وأين التمكين في حياة موسى أو عيسى عليهما السلام؟! وأين هو في حياة إبراهيم أبي الأنبياء r؟!
إن هذه النماذج النبوية هي النماذج التي ستتكرر في تاريخ الأرض، وهؤلاء هم أفضل من "عَبَدَ" الله ، {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90].
والآنبعد أن فقهت المغزى لعلك عرفت لماذا لم يعش عمر بن عبد العزيز إلا سنتينونصف فقط في تمكينه، وأدركت لماذا قُتل عماد الدين زنكي بعد أقل من عامينمن فتح الرُّها، وكذلك لماذا قُتل قطز بعد أقل من سنة من نصره الخالد علىالتتار في عين جالوت، وكذلك لماذا قُتل ألب أرسلان بعد أقل من عامين منانتصار ملاذكرد التاريخي، ولماذا لم "يستمتع" صلاح الدين بثمرة انتصاره فيحطين إلا أقل من سنة ثم سقطت عكا مرة أخرى في يد الصليبيين، ولماذا لم يرَعبد الله بن ياسين مؤسس دولة المرابطين التمكينأصلاً، ولماذا مات خير رجال دولة الموحدين أبو يعقوب يوسف المنصور بعد أقلمن أربع سنوات من نصره الباهر في موقعة الأرك.
إنهذه مشاهدات لا حصر لها، كلها تشير إلى أن الله أراد لهؤلاء "العابدين" أنيختموا حياتهم وهم في أعلى صور العبادة، قبل أن تتلوث عبادتهم بالدنيا،وقبل أن يصابوا بأمراض التمكين.
إنهم كانوا "يعبدون" الله حقًّا في زمن الإعداد والشدة، "فكافأهم" ربُّنا بالرحيل عن الدنيا قبل الفتنة بزينتها..
ولابد أن سائلاً سيسأل: أليس في التاريخ ملك صالح عاش طويلاً ولم يُفتن؟!أقول لك: نعم، هناك من عاش هذه التجربة، ولكنهم قليلون أكاد أحصيهملندرتهم! فلا نجد في معشر الأنبياء إلا داود وسليمان عليهما السلام، وأمايوسف -عليه السلام- فقصته دامية مؤلمة من أوَّلها إلى قبيل آخرها، ولانعلم عن تمكينه إلا قليل القليل.
وأما الزعماء والملوك والقادة فلعلك لا تجد منهم إلا حفنة لا تتجاوز أصابع اليدين، كهارون الرشيد وعبد الرحمن الناصر وملكشاه وقلة معهم..
لذلك يبقى هذا استثناءً لا يكسر القاعدة، وقد ذكر ذلك الله فيكتابه فقال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْعَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِوَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24].. فالذي يصبر على هذه الفتن قليل بنص القرآن،بل إن الله إذاأراد أن يُهلك أمة من الأمم زاد في تمكينها!! قالتعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْأَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُواأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
إنني بعد أن فهمت هذا المغزى أدركت التفسير الحقيقي لكثيرٍ من المواقف المذهلة في التاريخ.. أدركت لماذا كان عتبة بن غزوان رضي الله عنه يُقْسِم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعفيه من ولاية البصرة! وأدركت لماذا أنفق الصديق رضي الله عنه ماله كله في سبيل الله، وأدركت لماذا حمل عثمان بن عفان رضي الله عنه وحده همَّ تجهيز جيش العسرة دون أن يطلب من الآخرين حمل مسئولياتهم، وأدركت لماذا تنازلخالد بن الوليد رضي الله عنه عن إمارة جيش منتصر، وأدركت لماذا لم يسعد أبو عبيدة بنالجراح رضي الله عنه بولايته على إقليم ضخم كالشام، وأدركت لماذا حزن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه عندما جاءه سبعمائة ألف درهم في ليلة، وأدركت لماذا تحول حزنه إلى فرحعندما "تخلَّص" من هذه الدنيا بتوزيعها على الفقراء في نفس الليلة!!
أدركت ذلك كله.. بل إنني أدركت لماذا صار جيل الصحابة خير الناس! إن هذا لم يكن فقط لأنهم عاصروا الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، بل لأنهم هم أفضل من فقه مغزى الحياة، أو قل: هم أفضل من "عَبَدَ" الله ؛ولذلك حرصوا بصدق على البعدعن الدنيا والمال والإمارة والسلطان، ولذلك لا ترى في حياتهم تعاسة عندمايمرضون، ولا كآبة عندما يُعذَّبون، ولا يأسًا عندما يُضطهدون، ولا ندمًاعندما يفتقرون.. إن هذه كلها "فُرَص عبادة" يُسِّرت لهم فاغتنموها، فصاروابذلك خير الناس.
إن الذي فقِه فقههم سعِد سعادتهم ولو عاش في زمن الاستضعاف! والذي غاب عنه المغزى الذي أدركوه خاب وتعس ولو ملك الدنيا بكاملها.
إننيأتوجه بهذا المقال إلى أولئك الذين يعتقدون أنهم من "البائسين" الذينحُرموا مالاً أو حُكمًا أو أمنًا أو صحة أو حبيبًا.. إنني أقول لهم: أبشروا، فقد هيأ الله لكم "فرصة عبادة"! فاغتنموها قبل أن يُرفع البلاء، وتأتي العافية، فتنسى الله، وليس لك أن تنساه.. قالتعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْقَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْلَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُكَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12].
وأسأل الله أن يفقهنا في سننه.. وأسأله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.